مع اكتمال حلقة تبادل الأسرى بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي والتي لعبت فيها مصر دورًا حيويًّا من خلال رعايتها للمفاوضات التي جرت بسرية تامة وتجددت بقوة بعيد تنحي حسني مبارك في يناير الفائت، اندلع نقاش ساخن في كل من رام الله وتل أبيب، لكن ورغم وجود بعض الأصوات التي تقلل من أهمية الصفقة وقيمتها السياسية والمعنوية إلا أن هناك شبه إجماع على الدور الريادي الذي لعبته مصر، ولذلك لم تنس عائلات الأسرى الفلسطينيين المحررين من التوجه بالشكر إلى الجانب المصري الذي عمل بجهد من أجل إقناع الجانب الإسرائيلي على الموافقة على بنود الصفقة التي تعثرت مرات عدة خلال السنوات الماضية.
ويرجع العديد من المراقبين سبب موافقة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو على صفقة تبادل الأسرى إلى رغبة حقيقية في تهدئة الأجواء المتوترة مع القاهرة، والتي تفاقمت بعد مقتل سبعة جنود مصريين على الحدود خلال ملاحقة الجيش الإسرائيلي لمجموعة نفذت عملية مسلحة في إيلات، ولعل اللافت هنا أن وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود بارك سارع في الأيام الأخيرة إلى الاعتذار لمصر عن الحادث وهو ما كانت تل أبيب ترفض فعله في البداية.
لكن الناطق بلسان وزارة الخارجية الإسرائيلية يغال بالمور انتقد بشدة المقابلة التي أجراها التلفزيون المصري مع الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط في معبر رفح بعد الإفراج عنه بوقت قصير. وقال بالمور في تصريحات للإذاعة العبرية: إن "هذه المقابلة التي فرضت على شاليط قبل عودته إلى بلاده انطوت على انعدام الحساسية تجاهه".
ووصف بالمور هذا الأمر "بالمخزي الذي لا يمكن للتلفزيون المصري أن يفتخر به" على حد وصفه. وظهر شاليط في المقابلة التي أجراها التلفزيون المصري معه فور الإفراج عنه من قبل كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس وقد بدت عليه علامات التوتر والاضطراب، حيث قطع التسجيل أكثر من مرة بسبب ذلك.
وتشعر إسرائيل منذ اندلاع الثورات الشعبية في العالم العربي وبخاصة في مصر وسوريا بأنها تعيش في عزلة إقليمية وهو ما شدد عليه رئيس حكومتها خلال خطابه الأخير في مجلس الأمن، لا سيما أن العلاقة بين تل أبيب وأنقرة دخلت إلى الثلاجة في أعقاب إصرار إسرائيل على تقديم اعتذار رسمي عن مقتل نشطاء أتراك كانوا على متن أسطول الحرية المتوجه إلى قطاع غزة.
هذا فيما وجهت العديد من العائلات الفلسطينية التي شملت أبنائهم في الصفقة الشكر إلى مصر لما بذلته من جهود لإتمام العملية. وتزعمت المخابرات المصرية بقيادة مراد موافي الوساطة بين حماس التي مثلها قائد كتائب القسام أحمد الجعبري والقيادي محمود الزهار فيما مثل الجانب الإسرائيلي ديفيد ميدان.
ويرى الكثير من الفلسطينيين أن إسرائيل وجدت نفسها مضطرة إلى الاستجابة إلى النصائح المصرية بتمرير صفقة تبادل الأسرى من أجل سحب فتيل الأزمة الدبلوماسية بين البلدين، ويعتمد أصحاب هذا الرأي في تبريرهم لموقفهم منطلقين من حقيقة مفادها أن نتنياهو وافق على شروط الصفقة الحالية التي تعتبر أكثر تشددًا في بنودها من العرض الذي تلقاه رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق أيهود أولمرت.
وكتب ناحوم برنياع في ديعوت يقول: "يحسن أن نقول الحقيقة لأنفسنا وهي أننا خسرنا في هذه المعركة.. خسرنا دونما صلة بسؤال ما هو الفرق بين الصفقة التي رفضها أولمرت والصفقة التي قبلها نتنياهو. فهذه دقائق غير طائلة. خسرنا لأننا لم نستطع أن نُخلصه بطرق أخرى، وخسرنا لأننا برهنا للفلسطينيين على أنه يمكن بالقوة إحراز الكثير جدًّا منا لكنهم لا يحرزون شيئا بالتعاون، وخسرنا لأننا اضطررنا إلى الاستسلام لإملاء تصحبه مخاطرة أمنية باهظة".
وبعيدًا عن سبب خروج الصفقة إلى النور، ينضح تساؤلاً كبيرًا يتردد في أروقة أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، وهو، هل تحسن عملية التبادل من شعبية حماس المتهاوية في قطاع غزة؟ صحيفة التايم الأميركية حاولت الإجابة على هذا الأمر، مشيرة إلى أن الضائقة التي يعانيها السكان في القطاع ستجعل مكسب حماس من الصفقة يتبحر سريعًا حين تذهب الفكرة وتأتي السكرة ويجد المواطنين أنفسهم ما زالوا خاضعين لحصار يتحكم في مفاصل حياتهم.
وتفرض إسرائيل منذ العام منتصف عام 2006 حصارًا مشددًا على قطاع غزة جاء في أعقاب فوز حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية وخطفها بالتعاون مع جيش الإسلام ولجان المقاومة الشعبية الجندي جلعاد شاليط من إحدى المعسكرات الإسرئيلية المحاذية للقطاع، ومنذ ذلك الحين شنت إسرائيل حربين على غزة قتل خلالها أكثر من 1200 فلسطيني، وهو ما يدفع البعض إلى القول إن صفقة التبادل التي تضم إطلاق سراح نحو 1050 أسيرًا دفع الفلسطينيون مقابلها أروح يفوق عددهن ما سيتم إطلاقه من السجون الإسرائيلية.
وتبين استطلاعات التي تنشر طوال الفترة الماضية تدني شعبية حماس مقابل تصاعد شعبية الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي توجه إلى الأمم المتحدة لنيل الاعتراف في الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967. ورغم أن كاف التوقعات ترجح عدم نجاح هذا الأمر لا سيما مع تلويح الولايات المتحدة الأميركية باستخدام حق النقض "الفيتو" في حال اجتاز القرار نسبة الأصوات المقررة لتمريره، وتعتبر واشنطن هذه الخطوة من قبل الفلسطينيين "أحادية" تعقد حل الصراع ولا بد من جلوس الطرفين على طاولة المفاوضات من أجل حسام الأمور العالقة.
ويعتقد الخبير الإسرائيلي، زلمان شوفال، أن الصفقة لن تحسن العلاقة بين السلطة وإسرائيل، وأوضح في مقال نشره على صدر صحيفة "إسرائيل اليوم": "منذ اللحظة التي علمنا فيها بصفقة الإفراج عن جلعاد شاليط بدأ عندنا وعند جهات أجنبية الجدل في سؤال هل يُقدم هذا أو يؤخر المسيرة السياسية بيننا وبين الفلسطينيين. وكان من أجابوا /أنه لن يُقدم ولن يؤخر لأنه لا يوجد أصلاً ولن توجد مسيرة سياسية ما بقي أبو مازن متمسكا بمواقفه الرافضة على الأقل".
وانتقدت صحيفة ها آرتس أسلوب تعامل نتنياهو مع حركة فتح، وكتبت في افتتاحية عددها الثلاثاء تقول: "في الوقت الذي ترفع فيه صفقة شاليط أسهم حماس في أوساط سكان المناطق، تحرص حكومة نتنياهو على أن تعرض حركة فتح، المتمسكة بالتسوية السياسية مع إسرائيل، كأداة فارغة. لا يمر أسبوع دون أن يبشر بخطة بناء استيطاني في الضفة الغربية أو القدس الشرقية.
ورأى المحلل السياسي الإسرائيلي، تشيكو منشه، أنه إذا كان نتنياهو قادرًا على أن يقلب كل مبادئه الأساسية، من المحذر الوطني ضد تحرير السجناء إلى محرر مئات القتلة فانه قادر أيضًا على أن يعقد اتفاق سلام ويقسم البلاد. فقط إذا أراد، وإذا ما كان ما يكفي من الضغط الجماهيري".
وبحسب أوساط فلسطينية مطلعة فان قادة حماس يرفضون إجراء أي لقاءات مع قيادة فتح في الوقت الراهن خشية أن يسرقوا جزءًا من أضواء الصفقة، وقال عيسى قراقع، وزير الأسرى في الحكومة الفلسطينية في رام الله إن حماس لم تنسق معهم بخصوص العملية ولم يكونوا شركاء في المفاوضات التي جرت بخصوصها في القاهرة.
في هذه الأثناء، انتقد الكاتبان عاموس هرئيل وانشل بابر، ما أسماه بالفشل الاستخباراتي لتخليص شاليط من الأسر، وأشارا في صحيفة ها آرتس إلى الحديث هنا، بهذا المعنى عن إخفاق مقلق للأذرع الأمنية الإسرائيلية. وأضافا: إن "الشباك" هو الذي يتلقى في هذا الشأن أكثر الضربات وهو الذي اعترف قادته بفشلهم في العثور على المعلومات الاستخباراتية ذات الصلة. لكن فحصًا دقيقًا عن أحداث السنين الخمس الأخيرة يدل على أن الجيش الإسرائيلي كان ذا نصيب جوهري في هذا الخلل. "انتهاء قضية شاليط على هذه الصورة يوم حزين للجيش الإسرائيلي".
ويشار إلى أنه رغم فرحة الإسرائيليين بتحرير شاليط، إلا أنه العديد من الكتاب والمحللين والخبراء الإسرائيليين يحذرون من تكرار عمليات الأسر للجنود الإسرائيليين لتحرير ما تبقى من أسرى فلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وينادي بعض أعضاء الكنيست بإقرار قانون يقضي بمنع عقد صفقة تبادل، فالتبادل يجب أن يجب بتعادل بمعنى أن يحرر مقابل كل جندي إسرائيلي يقع في الأسر معتقل فلسطيني واحد، وكتب الخبير الإسرائيلي، الياكيم هعتسني، في صحيفة يديعوت يقول: "كي لا نُبتز مرة أخرى، مطلوب تغيير قيمي في منظومات حياتنا – من مجتمع وصفه نصر الله ببيت العنكبوت إلى بيت الفولاذ الذي كان لنا منذ بداية عهد الصهيونية".